إن التعاون بين فيروز والأخوين رحباني لمدة عقدين ونصف من الزمن أثمر عن ثروة إبداعية لم يسبق لها مثيل في العالم العربي. غنت أكثر من ٨٠٠ أغنية، مثلت في أكثر من ٢٠ مسرحية غنائية، ثلاثة أفلام وبضعة اسكتشات موسيقية، ناهيك عن الحفلات الغير معدودة، الجولات، والظهور المتعدد على امتداد الوطن العربي والعالم. كتبوا وغنوا لمواضيع عديدة متنوعة، خاطبوا قلب وعقل كل إنسان عربي. غنت فيروز البلدان، المدن والشعوب. لم تغني قط لأي رمز سياسي. غنت للحب، للفرح والحزن، للأمل والتفاؤل، غنت للشعب الفلسطيني ولقضيته، غنت للأمهات في الأرض، للسماء والنجوم والقمر، للأطفال،للأب والأم، للأخ والأخت، للبنت والابن، غنت قلبها لوطنها الحبيب لبنان، وحملته معها إلى كل العالم، وأكثر من ذلك صلت واعترفت بإيمانها. الله والصلوات تخيم على أغانيها لأنها مؤمنة ومخلصة. الرحبانيون وفيروز أبدوا إهتماماً بمواضيع عديدة حتى يصعب إيجاد موضوع معين لم يحظ بالذكر في أعمالهم وأغانيهم. لقد خاطبوا شعباً من كل الأعمار والطوائف والجنسيات.
خلال الحرب الأهلية اللبنانية، قررت فيروز البقاء في بيروت على الرغم من أنها كانت تملك المقدرة المادية لتعيش في الخارج. لم تغادرها حتى بعد إصابة بيتها بصاروخ. لم تغنّي فيروز داخل لبنان خلال معظم سنيّ الحرب لأنها لم تكن تريد التحيز لأي فئة.
مرت علاقة فيروز بعاصي بمراحل مختلفة. عندما تعرض عاصي لأزمة صحية أصابت أحد شرايين دماغه، اضطر معها لأن يغيب عن التحضيرات لمسرحية (المحطة) عام ١٩٧٣، غنت له فيروز سألوني الناس، التي تشتاق فيها إليه وتعبر عن أنه يعز عليها الغناء في غيابه خاصة وأنه الغياب الأول. كانت هذه الأغنية أول ما لحنه لها زياد ابنها. لكن علاقة فيروز بعاصي ومنصور تدهورت في أواخر السبعينات وعقد عملهم انكسر إذ جاءت مرحلة الخلافات الحادة بين عاصي وفيروز والتي أدت في نهاية المطاف إلى الانفصال. بعد تدهور عائد بحالته الصحية، توفي عاصي في ٢١ حزيران/يونيو ١٩٨٦ وكانت فيروز وقتها تحيي حفلات ناجحة في لندن، بمرافقة زياد، وترتل في كنيسة ويست منيستر. شكل رحيل عاصي كارثة في مسيرة الفن العربي وفي حياة فيروز الشخصية. هذه المرأة العظيمة بصمتها والكبيرة وبحزنها، فجعت أيضاً بوفاة ابنتها ليال بعد وقت قصير من وفاة عاصي.
طوت وفاة عاصي تاريخاً من الإبداع المشترك لتفتح صفحات جديدة منه مع زياد الابن. فبعد عام واحد على رحيل عاصي، أصدرت فيروز اسطوانة معرفتي فيك التي جاءت لتستوعب الماضي الفيروزي العريق، ولتضيف عليه إبداعاً أكثر جرأة وأكثر انطلاقاً نحو التطوير. وفي العام ١٩٩٥ قدمت فيروز وزياد أسطوانة إلى عاصي كهدية إلى روحه، استعادت فيها فيروز غناء مجموعة من الروائع الرحبانية بتوزيع وإشراف موسيقي لزياد، مع أوركسترا ضخمة كما كان يحلم عاصي أن تنفذ موسيقاهم، عبرت فيها فيروز عن حبها الكبير له، وتقديرها لفنه العظيم، فكانت أجمل هدية لراحة نفسه.
استمرت فيروز في غناء الأغاني الرحبانية جنباً إلى جنب مع الأغاني الخلاقة والمتأثرة بشكل أساسي بموسيقى الجاز لابنها زياد. كما غنت أغان كان قد خبأها لها فليمون تحت وسادتها قبل رحيله. عملت أيضاً مع زكي ناصيف، ومؤخراً مع محمد محسن، بعد عقود طويلة من أول تعاون بينهما.
بعد انتهاء الحرب الأهلية، أقامت فيروز حفلة في بيروت في العام ١٩٩٤، ثم عادت إلى بعلبك عام ١٩٩٨ حيث حققت حفلاتها نجاحاً مجروحاً. استمرت بإطلاق أغان جديدة وإحياء الحفلات حول العالم.
أغاني فيروز تدين بالكثير للعبقرية الموسيقية والشعرية للأخوين رحباني. في السنوات الأخيرة عكست أيضاً موهبة التأليف لدى زياد الرحباني. بالإضافة إلى ذلك، عززت القاعدة الموسيقية الرحبة لفيروز التي تجمع ما بين الأداء الطقسي الكنسي و الغناء العربي التقليدي.
من أكثر أعمالها الجديرة بالذكر مؤخراً، حفلتي بيت الدين عامي ٢٠٠٠ و ٢٠٠١ اللتان أقامتهما بالتعاون مع ابنها زياد. هاتان الحفلتان بشرتا بولادة عصر جديد في حياة وأعمال فيروز وأوضحتا اختيارها وتفضيلها التركيبة الزيادية. ألبومها الأخير ولا كيف،أيضاً بالتعاون مع زياد، وضع الختم الأخير على حصرية زياد في أية أعمال مقبلة.
مصادر:
"فيروز: حياتها وأغانيها" تأليف مجيد طراد وربيع محمد خليفة
"فيروز: المطربة والمشوار" تأليف رياض جركس
"الرحبانيون وفيروز" تأليف جان ألكسان
"طريق النحل" تأليف هنري زغيب