نهاد ( التي ستعرف فيما بعد بفيروز ) ولدت في بيروت، في بيت متواضع.
التحقت بمدرسة سان جوزيف للبنات. كان والدنا يعمل بكد كمنضد في مطبعة ليؤمن لنا المأوى المناسب ومن أجل تعليمنا .
بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد قادراً على دفع الأقساط الباهظة للمدارس الخاصة، لذلك التحقت بمدرسة حكومية. مرت على عائلتنا أوقات عصيبة لكن والدتنا، ليزا البستاني، فعلت المستحيل حتى نحافظ على كرامتنا بين بقية أقراننا. شجعتنا على الذهاب إلى الكنيسة كل يوم أحد، أنشأتنا على محبة الآخرين، "لا تحسدوا الآخرين، اقتنعوا بما تملكونه، ودائماً أحبوا بعضكم بعضاً". كانت تلك كلماتها اليومية لنا، من يومنا الأول، وحتى وفاتها في عام ١٩٦١ (عن ٤٥ سنة فقط). مرحلة شبابنا كانت مليئة بالألم والفقر، لكننا نشأنا على الكرامة وعزة النفس.
لقد وهب الله أختي فضائل الصمت والاحتمال، ومحبة الآخرين. دائماً كنت أعتبرها أكثر حكمة وأقوى مني. طبيعتها الحقيقية الطيبة كانت تتجلى في وقائع بسيطة لا أزال أذكرها. أثناء طفولتي كنت أخاف من العتمة، وكان أبي واعياً لذلك، كان يحاول مساعدتي بأن يضع برتقالة خلف البيت ويقول لأختي ولي "من يجلب البرتقالة سوف يحصل على مصروف أكثر يوم الأحد"
بدون أي تردد كانت نهاد تخرج لتحضر البرتقالة وتعطيني إياها، دون علم والدي. لذلك كان بإمكاني الحصول على نقود أكثر .
بالطبع، هذا شجعني فيما بعد لأن أحضر البرتقالة بنفسي وأتغلب على خوفي من الظلام. لم تتوقف عن العناية بي، حتى بعد أن كبرنا.
اعتدنا على الذهاب إلى ضيعتنا، دبية الشوف، كل سنة لقضاء الصيف في بيت جدتنا لجهة أمنا. كنا نحب جدتنا كثيراً، وكنا نستمتع بحكاياتها عن المكسيك وأميركا، حيث أمضت بضعة سنوات من شبابها مع جدنا هناك. كانت أختي تحب جمع الحطب من الغابة خلال شهر أيلول/سبتمبر لاستخدامه في الشتاء، وفي طريقها إلى الغابة كانت تغني بصوت عالٍ جداً مع أصداء تصل الضيعة. عندها أدركنا أن أختي تمتلك صوتاً جميلاً، في الحقيقة، كانت تستمتع بالغناء ولم تكن ترفض طلباً. كانت تغني لساعات وساعات كأي هاوية.
عندما بلغت الرابعة عشرة من عمرها، سألها مدير مدرستها أن تغني في حضور محمد فليفل، أستاذ الموسيقا، وأحد مؤسسي المعهد الموسيقي الوطني في لبنان، والذي كان يبحث عن أصوات جديدة بهدف تأسيس فرقة كورال لبرنامج يتم إعداده من أجل مناسبة رسمية. أحب السيد فليفل صوتها، وسألها إن كانت تريد الانضمام إلى فرقة المنشدين التابعة له. وافقت نهاد، ولكن كان يجب الحصول على موافقة والدنا. عندما غنت في ذلك اليوم، لم تكن تتخيل أنها استحقت مفتاح الشهرة والنجاح.
سررنا أنا وأمي عندما أخبرتنا أختي عن هذا الحدث، لكن قررنا ألاّ نخبر والدي لأنه كان لدينا كل الثقة، أنه بعقليته المحافظة، سوف يرفض فكرة أن يرى أختي تغني للعامة. لذلك بدأت بمرافقتها إلى معهد فليفل لمدة أربع أو خمس سنين، حيث تعلمت كيف
تغني وفق منهاج موسيقي. في نفس الوقت رتب لها السيد فليفل لأن تدرس في المعهد الموسيقي الوطني. كانت تلميذة لامعة جداً، ونجحت في اختبارات التخرج. كان لدينا أنا وأمي انطباعاً بأن أبي لم يكن على دراية ببرنامج الدراسة، وقررنا أن نفاجئه يوم التخرج (ولو أنه ظهر لاحقاً، أن أبي ربما كان يعلم، ولكن كبرياءه كان يمنعه من الاعتراف بهذا علناً، لئلا يكسر بخاطر ابنته الموهوبة).
في ذلك اليوم، أخبرناه أننا تلقينا بطاقات دعوة لحضور حفلة ونريده أن يكون معنا. بعد جدال طويل، وافق على الحضور. وصلنا هناك على الوقت، وبعد أن أزيحت الستارة بوقت قصير ظهرت نهاد على خشبة المسرح. لقد كانت أكبر صدمة تلقاها في حياته أن يرى ابنته تقف باعتزاز، لتغني تنويعات موسيقية وتتسلم شهادتها. نظرت إلى وجهه لأرى الدموع تنهمرعلى خديه. لقد كان أسعد من في الحضور، لكن بدون أن يعترف بذلك .
لاحقاً، جاءها عرض عمل في الإذاعة اللبنانية، لكن أبي أقام الدنيا وأقعدها، لأنه أرادها أن تواصل دراستها في المدرسة العادية. إلا أن خالي، الشقيق الأصغر لأمي، الذي كان يحبه أبي ويحترم رأيه، أقنعه بأن يتركها تقبل الوظيفة.
أعطى والدي موافقته شرط أن لا تذهب لوحدها، وأن أرافقها دائماً. انضمت إلى الإذاعة اللبنانية بوصفها "مغنية ممتازة" في الجوقة وعملت بجهد كبير. في أحد الأيام، دعا حليم الرومي، الذي كان موسيقياً ومدير البرامج، دعا نهاد وطلب منها أن تغني بشكل انفرادي. كما اقترح أن تغير اسمها إلى فيروز، لأنه أسهل على اللفظ، وأصبح فيروز اسمها الفني. أذكر أنها عندما غنت لوحدها للمرة الأولى، كانت خائفة قليلاً، كما كان يمكن أن أرى من غرفة التحكم. عندما أنهت أغنيتها الأولى، هرع فريق العمل نحوها لتهنئتها، وكنت أنا الشخص الوحيد الذي لم يقدر على الحراك إنشاً واحداً، لقد ذهلت بما غنته. مع الوقت غنت أغان أكثر، وبدأت تصبح معروفة.
في ذلك الوقت كان الأخوان رحباني (عاصي ومنصور) يأتيان إلى الإذاعة ليقدما برامجهما، وهناك التقت فيروز وعاصي. بدأت بغناء أغانيهما، وبدأ عدد المعجبين يزداد، وفيروز أصبحت مشهورة. فقد طلبت البلدان المجاورة أغانيها، حيث كنا نذهب مع عاصي ومنصور إلى دمشق، سوريا، كل أسبوع لتسجيل الأغاني. كنت ألازمها ليلاً نهاراً، حتى تزوجت بعاصي في تموز /يوليو من عام ١٩٥٤. بطبيعة الحال، شعرت بالحزن العميق لغيابها، لكن كونها حنونة ومشاعرها مرهفة، كانت تهاتفني كل يوم تقريباً، وهذا ما أبقى علاقتنا قوية جداً. فيروز أصبحت مطربة مشهورة جداً، ومعبودة الملايين، لكن بالنسبة لي فهي لا تزال نهاد،أختي.
القليل جداً من الأشياء الكثيرة التي قيلت، والقليل جداً من الأشياء التي كتبت عنها، خاصة خلال السنوات القليلة الماضية، هو صحيح، إذ لا أحد يعرف أختي إلا هي وأنا.